المرأة والدعوة الإلهية
في تأريخ البشرية رجال عظماء صنعوا التاريخ ، ورسموا مسار الأحداث ، وفي تأريخ البشرية نساء كبريات ساهمنَ في صناعة التأريخ ، وتحديد المسار ووقفنَ إلى جنب الرجال العظماء يؤازرنهم، ويحرِّكنَ فيهم نوازع القوّة والإقدام .. وكم حفل التأريخ بنساء عظيمات اختططنَ المسار بإرادة ذاتية مستقلّة، وبقرار منطلق من الإيمان بالمبادئ والقيم ، وبما يجب أن يسير وفقه ركب الحياة ..
ذكرَ القرآن امرأة فرعون (آسية بنت مزاحم) وتحدّث عن مريم بنت عمران .. نموذجاً للمرأة العظيمة ، ومثلاً للّذين آمنوا .. نموذجاً للمرأة صانعة الموقف العقيدي ، المرأة التي تحدّت الرّعب والقساوة والإرهاب .. إرهاب الطواغيت ، والأهل ، وذوي النفوذ الأسري والاجتماعي والسياسي ..
مريم تتحدّى قومهـا ، وتقف صامدة بوجه المقاطعـة والحرب والرمي بشتّى التّهم والأكاذيـب .. فتصمد حتى ينتصر الحق معـجزة على لسان عيسى الصبيّ الصغير في المهد .. وقبلها تتحدّى آسية بنت مزاحم طغيان زوجها فرعون مصر .. وتضرب المثل الأعلى في التحدِّي ، ورفض الملك والسلطان والنعيم الزائف القائم على الظلم والطغيان .. إنّها استفاقة امرأة حرّة في قصور الجور والارهاب والفساد واستعباد الانسان .. يعظِّم القرآن شـخصية المرأة في هاتين المرأتين .. إنّه الثناء العظيم الذي يجعل من المرأة نموذجاً للأجيال ـ الرجال والنساء ـ فيضربهما مثلاً للناس :
(وضربَ الله مثلاً للّذينَ آمَنوا امرأة فرعون إذ قالت ربِّي ابنِ لي عندكَ بيتاً في الجنّة ونجِّني من فرعونَ وعمله ونجِّني من القوم الظالمين * ومريم ابنة عمران التي أحصَنت فرجها فنفخنا فيه من روحـنا وصدّقت بكلماتِ ربِّها وكتبه وكانت من القانتين)(التحريم/11ـ12).
ويأتي الرسول الهادي محمّد (ص) ، فيتحدّث عن خديجة مقرونة بآسية بنت مزاحم ، ومريم ابنة عمران في المكانة والمقام ، فيصفها بقوله :
(خير نساء العالمين : مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد) (1) .
(أربع نسوة سيِّدات عالمهنّ : مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد ، وأفضلهنّ عالماً فاطمة) (2) .
وروى ابن عباس : ( إنّ رسول الله (ص) خطّ في الأرض أربعة خطوط ، قال : أتدرون ما هذا ، قالوا : الله ورسوله أعلم ، فقال : أفضل نساء أهل الجنّة خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد ، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، امرأة فرعون) (3) .
وبهذا البيان النبوي الكريم ، توضع خديجـة قدوة وأسوة ، ومثلاً أعلى للرجال والنساء ، إلى جنب آسـية ومريم المذكورتـين في القرآن الكريـم .. فمنطوق الآية : (وضربَ الله مثلاً للّذينَ آمنوا امرأةَ فرعون ... ومريم ابنة عمران ... ) .
إنّ هذا البيان القرآني حريّ بالوقوف عنده والتأمّل فيه ، واستجلاء مفاهيمه ، وهو يتحدّث عن قيمة المرأة في الدعوة الإلهية،ودورها في المجتمع وصراع الحضارات،وصنع التأريخ.
لقد كان في هذا البيان القرآني خطّ فاصل بين مفهومين عن المرأة ، المفهوم الجاهلي المستخفّ بقيمتها وقدرها ، ودورها في الحياة ، وبين مفهوم الاسلام الذي يرسمه القرآن، فيجعل المرأة الصالحة قدوة للرجال، ويدعوهم للاقتداء بمواقفها ، والسّير على نهجها في التحرّر من الظلم والطغيان والخرافة والاستبداد السياسي والارهاب الفكري ، الذي مثّله فرعون ، وطواغيت بني اسرائيل في عصرَي آسية ومريم .
وتجسِّد خديجـة (رض) الموقف نفسه من الظلم والخرافة والطغيان ، ورفض قيم المجتمع المتخلِّف عندما تقف إلى جنب محمد (ص)، مؤمنة مؤازرة، ترصد ما تملك من جهد وإمكان ومال ومشاعر لنصرة الحق، وإنقاذ الانسان .. لذا يتحدّث عنها الرسول (ص) مقرونة بمن سبقها من النساء العظيمات .